الأوفياء يسقطون واحدا تلو الآخر كأوراق الخريف..ما عاد للحياة معنى
سيدي القاضي المحترم جداً جداً..
قبل أن أقفَ أمامك غداً، زوالاً، بقدمين متعبتين من قطع المسافة الرابطة بين محطّة الطاكسيات ومبنى المحكمة البعيد، وتطلبُ مني رفع رأسي، كشاهد قبر على نصف رجل يُحتضر، والنظر في عينيك المُتحجرتين المخيفتين، محاولا إرهابي بنظرات مفترسة ومتفحصة؛ وتُزمجر بهمهمات مرعبة؛ فألوذ بعيداً بنظري لتلك الآية القرآنية خلف ظهرك؛ مستسلماً لرغبة خفّية تدفعني لتهجيها صمتاً؛ محاولا استّيعاب أبعادها الرمزية والروحية في وقوفها في صّفي كمتهم؛ كل ما فعله واقترفه، أن فرد روّحه كإنسان لترفرف بعيداً متضامنة مع مقهورين يتشارك وإياهم الأرض والهمّ والقضية..
دعني أخبرك، سعادة القاضي المُحترم، بأن صديقي قد توفي هذا الصباح بسبب أزمة قلبية جبانة، لم تتجرأ، ولم تستقوى؛ إلا على ذاك القلب النبيل والمُسامح لتُعطِلهُ نهائياً، فيسقط جسد صديقي كعمارة شامخة في حدود الساعة الحادية عشزة صباحا.. أعرف أن هذا الخبر لن يعنيك في شيء، وقد لا تلتفت له البتّة، وستنشغل بمراجعة الأحكام التي ستوزعها على مهمشين منبوذين، اقترفوا جرائم صغيرة وتافهة؛ ليلّفتوا انتباه المسؤلين على وجودهم بهامش خريطة الوطن؛ وبما أن لا احد يُبالي بصّراخهم ونباحهم، تعمدوا دفعك لضرب ظهر المنصّة بمطرقة خشبية لعل صدى صوتها يصل للمعنيين ويأخذوا صراخهم ونباحهم مأخذ اهتمام وعناية ومعالجة.
سيدي القاضي المحترم جداً جداً..
لقد وعدني هذا الصديق بمرافقتي غداً للمحكمة.. نستقلُّ عربة النقل المزدوج لحدود مدخل المدينة، هناك سنطلبُ من السائق التوّقف وإنزالنا؛ يفعل ذلك بفرح وسرّور، بسرعة وهمّة عسكري يريد العودة لزوجته الصغيرة. يريد التخلّص منا قبل المحطة لعله ينتشل جسد راكبين آخران وجهتُهما بلوغ المحطة.. فلا الرّاديو، ولا صحف الصباح، ستتحدث عن رُكابٍ سُرقت منهم آدميتهم بجوف عربة كبيرة مُهترئة؛ ولا راكب سيملك الجرأة للصراخ، لاشيء يعجبني.. لا السائق المتهور، ولا المحطة المُوحشة، ولا حتى تكشّير الصبي في وجوهنا وهو يستخلص تسعيرة الرحلة..
لقد سطّرنا برنامج مساء الثلاثاء غير مبالين بآذان تتنصت علينا خفية.. اعتقدنا أن الوقت وحده العدو المرتقب؛ ونسينا شبح الموت المُتربص بنا لحظة كنا نتفق على كل شيء، حتى على التفاصيل؛ كي لا نترك للشيطان خُرم إبرة ينفذ منه، ويفسد عشية ثلاثاء، أردناها ممتعة ومسلية بمدينة تأكل أبناءها.
شاء القدر أن نفترق ليل الأحد وللأبد .. كان الموت أسرع من سيارة النقل المزدوج، ومن حكم قضائي نافذٍ أو موقوفَ التنفيذ ، ومن نداء الشّاوش _ صارخاً _ ببهو القاعة آمراً الجميع بالوقوف لحضرتك.. شاءت السماء أن تسرق روحه قبل أن ترّتجف وهو يجلس بالكرسي الخلفي منتظراً أن تنده على اسمي.. شاءت المَنيّة أن يسبق حكم السماء حُكمك، وحكمت عليّ بالذهاب وحدي، والنزول بمدخل المدينة ملتفتا للخلف..
فلا أجد سوى شابة تتبعني.. لم يكن هو.. لقد سافر قبلي حيث سنسافر كلنا في يوم ما؛ كلٌّ وموعده، ورقم الرحلة التي سيستقل، ومكان الكرسي الطويل حيث سيتمدد..
سيدي القاضي المحترم جداً جداً..
لم يمنحه القدر وقتاً مستقطعاً لحين أن أحكي له قصة مسرحية، تلقفها من يدي وأنا أهمُّ بالجلوس للكرسي على يمين الطاولة بمقهانا المعتاد.. قلّب أوراقها بحثا عن صوّر تشفي غليل فضوله، ولما باءت توقعاته بالفشل ؛ سألني عن فكرتها العامة. كنت بالكاد استلّفتها من صديق قرأ نصفها فشعر بالملل، وأعارها لي كلاعب هاوٍ لم يبصُّم على نصف موسم جيّد مع فريقه الجديد.. عدتُ بها راغبا في قضاء وقت ممتع، وحين طلب مني تلخيصاً صغيرا عنها، توّهتُ تركيزه بأني لم أطلع عليها بعد، وحين سأفعل، سأقص عليه حكاية شخصيات المسرحية. حينئذٍ؛ بدت أسازير وجهه مستريحة، وعاد بعيّنيه لشاشة هاتف لم يتعوّد بعد على دغدغة شاشته.
سأمتثل لوعدي وساحكي له عن المسرحية..
" في انتظار غودو" . مسرحية عالمية جميلة لصاموييل بيكيت، لا يسّع القارئ سوى إبداء تعاطف رمزي مع شخصيّتيها الرئيستين، في محاولتهما الفاشلة انتظار شخص غير منضبط للمواعيد، ومستهراً بالوقت، وبالزمن، وبمشاعر رجلين محترمين.. ينتظرانه في تجلّد قلّ نظيره، وبين فعل الانتظار وانجلاء ساعاته الثقيلة، يدور حديث ذو شجون بينهما ، وبين فترة وأخرى، يظهر عابر سرير لا دور له عدا أنه يواسيهما تقريباً.
لم ياتي "غودو" وما ملّ المنتظران.. ظلا مرابطين في تحدٍ سخيف للوقت، ولعيون شخصيات تمر دون أثر يذكر؛ كأني بصديقي الراحل يعلم مسبقا أن الحياة مجرد مسرحية؛ هو واحد من شخصياتها المنتظرة.. هما ينتظران "غودو" السمِج..
وأنا وهو، ننتظر الثلاثاء القريب..
سيدي القاضي المحترم جداً جداً..
قد تصدر حكمك غدا.. أو بجلسة أخرى تُحدّد وقتها وفق برنامجك ومزاجك.. قد تضرب بالمطرقة؛ وقد لا تفعل، فلم يعد يعنيني الأمر. صديقي الذي يرّتعب من صوت المطرقة غائب وللأبد. لكن دعني أقترح عليك اقتراحاً غبياً على أعتقد..
أصدر غداً حكما على بإعادة صديقي للحياة، وأحكم عليّ،أنا، بما تشاء من شهور أو أعوام.
على الأقل ، وحين ساغادر بوابة السجن؛ سأجده ينتظرني بمدخل طريق الدوّر ونتعانق بقوة كآخر مرة ..
ما رأيك.. ؟
سأنتظر غدا ردّك على اقتراحي هذا.
وتقبل مرّوري السخيف هذا.
0 تعليقات
أكتب لتعليق