بعد ولادتك بالمغرب في عقاب إلهي لك وقضائك لسنوات طويلة على أرضه، من المفروض، ومن الطبيعي، أن تكتسِب خصائص عظيمة وبالجُملة. أن يوُسِمك الله بخصال فريدة ومميزة دوناً عن غيره من مخلوقاته الكثيرة، وأن تصبح لك قُدرة كبيرة على "الفَهْلَلة" بلا خوف من أوّجاع ضمير مُبرحة..
أنا مثلاً، وطيلة سنواتي الاثنتا والثلاثون التي قضيتها بالبلاد، استطعت أن أجمع مخزون خِبراتٍ لا بأس بها من النفاق والخدّاع والغشّ والكذب.. على أمل أن أكسب مزيداً من الخبرات الأخرى التي تلزمني كي أكون مغربيا قحّاً، ذا أصل، وجذوري ضاربة في القِدم والأصالة..
من البديهي أن تكون كذلك جراء ماء الحنفية الذي شربته، وغبّار الأسواق الذي شممّته، والبرامج التلفازية التي تبثها القنوات، والحملات الانتخابية، والخُطب الملكية، والدروس الحسنية، والنشرات الجوّية.. تمُدّك هذه الأسباب بشحّنة قوة لموّاصلة مشوارك في حفر اسمك في سجلات "المغربي الأصيل"، يُجسّد وجوده على أرضه. لنفترض مثلا، لا قدر الله، ً أني ولدت في ألمانيا، أو سويسرا، أو الدانمارك.. أو بأيّ دولة كافرة غاشمة، أكيد سيكون لحياتي طعم مرّ، وسأكون إنسانا بلا خصّال جميلة، ولن أتطوّر من ملكاتي في الكذب، ولن أكسب خبرات جديدة في الغش، ولن أحسّن من جودة نفاقي، ولن ألعب دور الضحية المُحتاج دائما. سيفرض عليّ انتمائي لدولة من الدول التي ذكرت، أن ألتزم بضوابط حياة مملّة، وهي في اعتقادها، ضوابط جيدة وأخلاقية..
هنا أنا بخير جداً، بإمكاني أن أكذب في اليوم مليون كذبة، وفي أخر الليل، أختم نهاري بضحكة غادرة وأنام مُرتاح البال، وقد أشخُر حتى، ولن يهمني إن حلمت حلما جميلا أو كابوسا مزعجا.. قد أعاكس عشرات الفتيات في الطريق وأصفهن "بالقحّاب"، دون أن أخاف من متابعة القانون لي، ولو فرضنا أن واحدة فيهن تجرأت واستدعت الشرطة، فأول من سيُتهكم عليها؛ هي بالضبط. الشرطي سيُعيد تكرار نفس ما قلته:
ــ أش كتكوني غا قحّبة نيت..
وبفعل تصرفي ذاك، ومن يدري، قد أصبح بطلا قومياً في أعين الشرطي اليائس من الحياة، والمتذمر من عمله وزوجته..
سأغشّ بلا ذرة خوف، وإن ضبطت، فلن يجزرني ذلك عن تكرار الغشّ مرات ومرات.. العكس إن كنت مواطنا سويسريا، لن أستطيع الغش، وبهذا أكون قد ضيّعت ملكة من ملكات الإنسان الحقيقي والمُحفِّزة لي على البقاء سعيداً..
حلمتُ البارحة أنهم سلموني لإدارة مطار المسيرة بأكادير، حملوني في سيارة شرطة كبيرة، وسيدة مسؤولة عن الموارد البشرية بالعمالة تتبعهم بسيارتها "الفورد" السوداء الأنيقة. غير مُدرك لما يجري، تحسستُ جوف السيارة المُظلم، فجاءت يدي في وجه شرطي يجلسُ بجواري. سألته عن ما يجري؟ أجاب أنه حُكم عليّ بالنفي للسويد.. بمجرد سماعي للحكم الصادر في حقي، اسودّت الدنيا أكثر في عينيّ، وزادت سرعة دورتي الدموية في دورانِها. أطلقت صرخة قوية، وبدأت أضرب في باب السيارة برجلي طالبا منهم أن ينزلوني لأني لا أريد الرحيل. أمسكني الشرطي بقوة، وألجّم فمي بقطعة ثوب نتنة؛ الله أعلم من أين أخرجها.
بباب المطار أنزلوني، وخلفي وقفت المسؤولة تترجاني أن أغادر بلا ضجيج لأن الحكم قد صدر في حقي، مع التوصيّة، بضرورة تسريع تطبيقه. ووسط أيادي رجال الشرطة القوية كنت أصرخ وأنتفض، وأطالب بحقي في البقاء كمغربي أبا عن جد، وأنا لا أريد أن أغادر هذه الأرض السعيدة، ومنتهى حلمي أن أدفن فيها يوم أموت بالسرطان.
كلّ توسلاتي لم تنفع. جرجروني على الأرض وأدخلوني لقاعة الانتظار لحين وصول موعد رحلة الطائرة المُتوجهة للسويد والعياذ بالله. حاولت الهرب، لكن عيون الحرّاس مستيقظة. عاودت التوسّل للمسؤولة التي بالكاد غسلت وجهها من قناع "ماسكارا" تقليدي، لكنها لم ترأف لتوسلاتي وأشاحتْ بوجهها عني..
ولحظة سماعي صوت تلك المرأة المنبعث من بين الجدران، وهي توصي الراغبين بالسفر للسويد بالاستعداد للركوب الطائرة.. سقطت دمعتان فوق أرضية المطار.. دمعتا حُرقة على الرحيل.. على ضيّاع كلّ الخبرات التي لن تنفعني في السويد.. دمعتا حزن على أني سأصير موطناً أخيراً..
وأنا لا أريد ذلك..
0 تعليقات
أكتب لتعليق