هناك ما هو أسوأ من الموت، هو أن تعيش الحياة ببلادة دائمة، حين تستيقظ وتحيا نهارك أعمى، تفقد الأشياء حولك دهشتها الأولى، تتنفس الهواء ولا تشعر بطعمه، تضع قدميك على الأرض ولا تحس بنكهة الطين، تصافح الناس وعلى قلبك أتربة الزمن كله، عندما تفقد حرارة الحياة وتقضي أيامك منطفئا فذلك شعور أكثر فداحة من الموت.
لا شيء يضاعف إحساسك بالحياة مثل الموت، هذا الكائن الوحشي يجعلك أكثر استشعارا لتفاصيل الحياة، وتلك الصاعقة التي تضرب أعماقك تخلقك من جديد وتنفض الغبار عن قلبك، الموت يضبط جهازك النفسي كي يصبح أكثر رهافة وحدسا.
فحين تلامس عيناك جثة إنسان أمامك تستنفر بواعث الحياة داخلك فتتوقف عن التعامل ببلادة مع البشر الأحياء، ثم تعيد تعريف الحياة وفقا لنقيضها، وحين يتجلى الفناء أمامك كابوسا مرعبا يحرضك على اشتهاء الحياة أكثر والإحتفاء بالإنسان ومنح البشر قيمتهم قبل أن يصيروا جثثا ويرحلون..
تمر قطة بجواري فأقف أمامها بذهول، أكاد أحتضنها، أعانقها، أتمنى لو أطعمها بيدي، وأرتب لها مكان نومها، أمنحها كل ما تشتهي، أسمع منها شكواها، ماذا تريدين من الحياة أيتها القطة؟
أقول لنفسي ستموت هذه القطة يوما، ستختفي من الوجود تماما، لن أراها مرة أخرى، يجب أن أحتفي بها الآن، أخشى أن ترحل وهي ساخطة مني، كيف ينبغي أن أجعلها تعيش أقصى ذروة ممكنة من البهجة والمرح؟
الموت يجعلك تستعيد رؤيتك العذراء لكل الاشياء التي تلازم حياتك، قم الآن واحتضن باب غرفتك وأخبره أنك تحبه، إفتح نافذتك ودع الهواء يتسرب إليك ثم تساءل: ما هو الهواء؟ لماذا أحبه؟
أخرج للشارع وصافح أول إنسان تصادفه ثم حدثه أنك مشغوف به وأنه يعني لك الكثير، امنحوا الناس قيمتهم وما زالوا يتكلمون، اغفر لكل البشر في حياتك دون مقابل، تواصل مع أخبث كائن صب عليك مكائده وأخبره أنك الآن تشعر بالحنين إليه وأنك تهوى الحديث معه، أنفق حبك ودع العالم يتدفق داخلك كل لحظة، فغدا ستموت أنت أو يموت أحدهم ولن تتمكن من تقبيله أو حتى إرسال لعنة إليه، آه يا رب كم هو الإنسان تافه ولا يدرك قيمة الأشياء إلا حين يفتقدها، ثم ينزوي وينوح وقد خسر سلامه الداخلي وأصبح جثة أخرى فاقدة للقدرة على الصفح والغفران.
0 تعليقات
أكتب لتعليق