حضرة الدركي المحترم جدا جداً..
أريد فقط أن أعفيك من تعب البحث عن ولاعة صفراء كانت بجانب الملف الأخضر، على يمينك مباشرةً.. لا أدري كيف وصلت لجيب سروالي المتسخ؛ إذ لم أكتشف وجودها إلاَّ حين غادرت البوابة خارجاً بعد انتهاء التحقيق.. ولأبعد عني ملل المسافة الرابطة بين البناية ومحطة الحافلات، ولكي لا أنشغل بالتطلع لمؤخرات التلميذات المغادرات لتوهن للثانوية القريبة؛ قلت لابأس في الانشغال بتدخين سيجارة أو اثنتين أتسلى بنفث دخانهما ليزاحم دخان السيارات الكثيرة..
حين دسست يدي في جيب تملأه بقايا "طابا" الهاربة من خنق لفافة السجائر، اصطدمت بولاعتين جنبا لجنب، متعانقتين في وضع شاذ لن يقبل بوجوده رجل دين متشدد محب للدماء؛ وكل ما أعلمه ومتيقن منه، أن قبل دخولي لمكتبك الصغير، لم يكن بجيبي سوى ولاعة حمراء قديمة، وبضع دراهم، ونصف علبة سجائر قاتلة..
فكرت أن أعيد لك الولاعة كي لا تعتقد بي السوء.. أن تعتبرني سارقا متخفيا في جبة كاتب فاشل يسرق أي شيء.. يسرق مصروف أمه والولاعات أيضاً، كما كان يسرق قبلا جملا من قصاصات أخبار وينسبها لنفسه..
سيدي الدركي المحترم جداً جداً..
لا أعرف كيف أصبت بهذا المرض اللعين؛ سرقة الولاعات ودسها دون وعي بجيبي الأيمن.. وفي أحايين كثيرة أتصادف مع أربع أو خمس ولاعات؛ وعوض استخدام واحدة لإشعال نار السيجارة، أتذكر لمن سرقتها.. أجعل بينهم الدور، كل ما رغبت في التدخين أستعمل واحدة.. أنا رجل منصف وعادل رغم أني سارق.. أتعامل مع الولاعات كزوجات أربع أخاف أن لا أعدل بينهن في الفراش، وفراش الولاعة حرق رأس سيجارة رخيصة..
سيدي الدركي المحترم جدا جداً..
كانت والدتي، قبل ردح من الزمن، تحثني على التقدم لاجتياز امتحانات الدرك.. كانت تستفزني بطولي المناسب للمهنة كثيراً، لكن، وحين تصادف ووقفت لجانبك أحسست أن امي كان تخدعني بحسن نية.. وجدت قامتي كعود ثقاب أمام جسدك الفارع، ولكي لا تحسسني بالفرق، سارعت للجلوس قبلي على كرسي منخفض قليلاً ووثير لونه اسود.. فعلت ذلك متأخراً، بعد أن شعرت أن قامتي لا تخول لي سوى سرقة ثياب حبل غسيل قصير.. كانت والدتي مخطئة في تقديرها للأمر، ربما لأنها، ولاعتبارات نفسية، كانت تراني أطول واحد في الكون.. هكذا هي الأم، الحمار في عينيها يتحول لغزال فقط لأنه ابنها..
سيدي الضابط المحترم جداً جداً..
خط يدك جميل جداً لا يناسب وظيفتك.. تشبه رجلا خطاطا مبدعا، وحتى لحظة طلبت مني التوقيع تحت اعترافاتي على كناش الأقوال، ظللت مترددا للحظة، شجعتني بأن لا أخاف، اعتقدت أن الخوف قد شل أصابعي، عدا أن اعتقادك ذهب للجهة الخاطئة.. ترددت في التوقيع لسبب واحد، لم أشأ أن أشوه تلك اللوحة الجميلة بتوقيع غبي. لو تركتها كما هي لاعتبرها أحدهم مخطوطا يعود لرجل لغة بارع. لكنك أصريت أن تجعل من اللوحة مسخا بالسماح لي بالتوقيع..
سيدي الدركي المحترم جداً جداً...
دعني أخبرك بأمر غاية في الأهمية.. تلك المرأة التي كانت تجلس خارجا تشبه تقاسيم وجهها وجه أمي.. حتى أنها طلبت مني مساعدتها على العثور على اسم "خالد" بريبرطوار هاتفها الأسود الغبي. يا للصدفة؛ وشاح رأسها يشبه وشاح أمي.. ماركة هاتفها تشبه ماركة هاتف أمي.. حتى تعب عيناها قريب جداً من تعب عينا والدتي.. كانت نسخة كاربونية منها، من أمهاتنا المقهورات والمتعبات من حيف الزمن وتكالب الأقدر.. وشاءت الأقدار أن لا أعرف لما هي تجلس كل تلك الساعات هناك، لأنك أدخلتني وهي تنتظر "خالد" أن يجيبها.. ربما هو ابنها الآخر تريد أن تترجاه أن يرحم تجاعيد وجهها الكثيرة ويبقى قريباً منها.. ومهما كانت ظروف تواجد تلك المرأة هناك، إلا أن نظراتها كانت متسولة للجميع.. متسولة لي حتى أنا مع أني مجرد متهم بمحاولة زرع البلبلة..
سيدي الضابط المحترم جداً جداً. .
ساخبرك بسر أرجو أن تكتمه.. أنا لا استطيع زرع حتى حبة لفت بحوض منزلنا.. لا أستطيع زرع حتى ابتسامة على محيا وجه والدي.. التهمة كبيرة جداً، ولا تناسب مقاس جسمي الهزيل كثيراً، وأنت لاحظت أن أنفاسي كانت تصعد ببطئ مصعد عمارة بحارة مصرية قديمة..
سيدي الدركي المحترم جداً جداً..
آسف أني سرقت ولاعتك بدون قصد.. ومهما فعلتم..
فلن تستطيعوا سرقة الحلم منا..
ليلتك سعيدة أيها الدركي المبتسم. .
0 تعليقات
أكتب لتعليق