على فتاة فرنسية وصلت لسنٍ يسمح لها بالسفر لوحدها، تفتلُ شعر رأسها بطريقة غريبة تشبه مغنياً أفرو لاتينياً يريد لشكله أن يبدو مميزاً عن بقية المغنيين الآخرين، أو بإسبانية أربعينية قرأت عن جودته في مجلات عالمية بالكثير من الدهشة والرغبة في التذوّق، وأول شيء فعلته حين أُوتيحت لها الفرصة لتزور هذه البلاد، حاولت تجريبه مع شاب استهوته أسرّاب طيور عوّا وهي تعود ليلا لأوكارها غاضبة..
الساعة كانت تشير للتاسعة ليلاً.. اقنعتُ صديقي بضرورة القيام بجولة وسط المدينة. وبالرغم من سوء أحوال الجوّ واضطرابه، ومحاولة إقناع صديقي لي بالبقاء داخل جدران المقهى الدافئة للسّلامة، إلا أني كنت قد حَسمت الأمر بيني وبين نفسي، وحتى إن رفض مرافقتي، كنتُ عازماً على رمي جسدي داخل أول سيارة أجرة لوسط المدينة..
لقد تعبتُ من الجلوس لكراسي قاسية وصلبة، وملّت النادلة الجميلة من نظراتي المشتهية لها وبصّبصَتِ على مؤخرتها المحشورة داخل سروال جينز لونه باهث.. باهث قليلا بسبب نوع مسّحوق التصبين الذي تستعمله.. كانت تريد التخلص مني بأي وسيلة كانت؛ فصارت تتأخر عني كلما طلبت منها شيئًا.. لم تعد تبتسم في وجهي كما البداية. الساعات الطويلة التي قضيتها أمامها كانت كابوساً مزعجا لها، إذ كلّما رفعتْ عيناها لتراقب المكان وتتفحصَ وجه زبون دخلَ لتوّه، وجدتني أراقبها عن كثب؛ فتميل بجسدها خلف ماكينة عَصْر القهوة لتهرب من نظراتي اليابسة..
لم يكن التعب وحده من حمّسني في الذهاب لوسط المدينة، فوّسط تلك الريح الهوجاء التي تقتلع أي شيء يعترض طريقها، ومنعتْ حتى طيور عوّا من التحليق عالياً ومراقبة وجه الماء لعل صيداً ثميناً يَظهر له لتغوص بمنقارها وتخطفه؛ كنت أريد أن أجرب حظي في مواجهة الريح.. هل يستطيع جسدي النحيل الهشّ الصمود والمقاومة، أم أن هبّة صغيرة ستخلخل توازني وأقع. تملّكتني رغبة تحدي الرياح التي أخافت ثلاثةَ أرباع سكان الصويرة وجعلتهم يلوذون لمنازلهم باكراً..
أزقة المدينة القديمة الضيقة فارغة. بضعُ قطط تتسابق لنيل كِسرة خبز رماهَ أحدهم ومضى.. سيّاح أجانب بملابس خفيفة يتجولون دون أن يشعروا بالبرد. جلودهم الصفراء قاسية كالتمساح، أو أنهم يشربون مشروبات تمنح الجسد دفئاً غريباً أبدياً.. فوانيس حانات صغيرة مضاءة؛ وحدث أن سألت حارساً عملاقاً ببوّابة حانة عن ثمن مشروب نبيذ أحمر. الثمن منعني من التقدم للداخل. فتشتُ جيوبي وعددت المبلغ، لا يكفي حتى ثمناً لبيرتين دافئتين. اعتذرت له بخجل، ولازل صوت موسيقى غجرية تصدح من الداخل تحفزني على الرقص.
أينما وليتَ وجهك ستلمح شابا مغربياً يرافق أجنبية ويدخن هو وإياه سيجارة. فالمثل يقول؛ إذ زرت ميدلت ولم تأكل تفاحها فأنت غبي، وإن كنت تسكن الصويرة ولم تضاجع أجنبية، وحين تنهي عطلتها وتريد المغادرة، تترك لك حفنة أوراق خضراء؛ فأنت ستدخل جهنم بالتأكيد..
زوّار المدينة معرفون وتختارهم هيّ بعناية. تشبه المدينة مؤلف رواية " أنت؛ فليبدأ العبث" محمّد صادق، الذي اختار أبطال روايته من الواقع. كسَر نمطية أن تكون شُخوص الرواية خيالية لا وجود لها، فلجأ لفتح باب الترشح لشخصيات واقعية اختارها بعناية فائقة.
هي إذاك الصويرة، تغلفك بالكآبة والضجر عندما تزورها أول مرة. تحتاطُ منك وتترك بينها وبينك مسافة، وحين تتيقنُ من أنك من نوع زوارها المفضلين...
تهبُ لك سيجارة حَشيش وأجنبية شقراء تعلمك ركوب لوح التزلج فوق الماء..
لم تطمئن لي المدينة؛ لهذا عدت للدوار كئيباً. أرسلتني ببغبنٍ داخلي لأني لم أكن من النوع المفضل لها..
hassan
0 تعليقات
أكتب لتعليق