كلما بلغ يوم الجمعة وحَان موعد الصلاة، تمرّ والدتي على غرفتي لحظة استعدادها للذهاب للمسجد وترميني بسهام توبيخها المعهود .. هو توبيخ مؤلم على أية حال ولو قابلته بإستهتار وخفّة دم، يظل وقعه ساكنا مترسباً يخلق موجة إرتباكٍ وقلق في الوجدان.. لا تفوّت أي جمعة إلاّ ولابد لها من إنذاري كواجب أسبوعي تحتمُّه عليها قرابة الدّم.. أشد أنواع قرابة الدم اتصالاً وتشابكاً.. تُوهمني بأنها تزيحُ عن نفسها المسؤولية وتتركني أجابه مصيري القادم لوحدي.. تتظاهر كذباً بأنها تنآى عن إلتزاماتها تجاهي كإبن نجح في البقاء على قيد الحياة بفضل دعواتها.. وأمي عجوز تقريباً إن أسقطنا هيئتها على ما قد يجعل من المرء عجوزا، فأمّي قد بلغت من العمر عتياً.. وللأسف، عدد "أفٍّ" التي تسمعها مني يومياً يمنحني النصّاب للدخول في خانة العاقيّن. ومتعب أن تُدرك هذا طواعية دون حاجة لمن يخبرك به.... فعلٌ شاقٌ وأنت تحاول أن تبرر لنفسك؛ لما قلته؟!ا.. تارة، ترجعها للغضب المولود من الشيطان.. ومرات أخرى، تجعل "القَطعة" مشجباً يحمل عنك وزر المسؤولية والتعمّد .... مؤلم أن تكتم الخوف ممّا قد يكون مكتوب في خانة التوصيات الخاصة بك.. أولد عاق، أم بارٌّ بنسب متقدمة..
وأجزم بأن والدتي لم تهتم بأمراض الشيخوخة بالقدر الذي تهتم فيه لمصيري ومنتهايّ.. التجاعيد ملأت وجهها الوديع... الشيب لم يُخلّف خلفه ولو شعرة سوداء دليلا على أن السواد الذي كان عليه شعر هذا الرأس؛ لم ينل الخروب نصفه حتى.. وأنهكها الروماتيزم فأجبرها على أن تعتاد وتتعوّد وتألف المشي بتعنتٍ ومشقة.. وتقوّس ظهرها في ما يشبه عتاب منه لها على كل الأحمّال الثقيلة التي كانت تُهينه بها.. ووقت كانت أمي شابة، يافعة، مليئة بالحيوية والطاقة.. تحكي لي جدّتي، أنها كانت بألف رجل.. تحطب.. وتسقي.... تكنس وتطبخ.. وتجرّ الحبل لتوصل آجور البناء لعامل بناء في السطح يدخن بشراهة، غير مبال بصراخي وأنا مُعلق لظهرها بقطعة قماش مفصولة من لحافٍ قديم.. على ماذا كنت أصرخ؟ ربما رأيته ينظر لها بإشتهاء فلم أتحمل سجني لظهرها، وودت لو فكّت وثاقي لأبول عليه تمجيداً لها.. فأمي امراة طاهرة، وقد أكون مخطئاً في تفسيري لنظراته، وقد لا تكون نظرات غواية؛ ربما هي نظرات شفقة من العامل لامرأة تعاند صلّابة وخشونة الحبل لتوصل الآجور سالما لحدود حيث يقف؛ على حافة السطح يمد يده ليمسك التوصيلة .. .. كانت أمي كل شيء.. احتاجوا منها عمل كل شيء، عاملة من الصباح لحدود االتاسعة ليلا، وبعدها، عليها ان تُحضر نفسها وتتزين، لربما اشتهى والدي جِماعها ومداعبة جلدها الصلب.. وظلت متصالحة مع واقعها.. لم أسمعها يوما تشتكي أو تتبرّم من قدرها.. استسلمت له.. لم أرها يوما تُعاند والدي وتتجاحد معه وترد عليه الكلمة بأختها.. وحين تراه هائجاً، تلزم الصمت وتتابع عملها بالمطبخ.. سيهدأ وسيصالحها بطريقته الخاصة.. صحيح والدي ليس بمتسلط جبار.. لكنه لم يكن ليرغب في امرأة تتجادل معه كثيرا في ما يشبه عراكاً كلامياً.. لم تغادر بيتنا يوماً دون إذنه، ولو كبرنا، وحتى حينما تُلح عليها إحدى شقيقاتي بمرافقتها لمكان ما، تصر على أن تستأذن من والدي.. وإن لم يُلزمها هو بهذا من الأصل.. وإن كان لن يغضب حين سيعلم بمرافقتها لإحدى بناتها، إلا أنها تظل مُلتزمة بالأمانة على حدّ تعبيرها هي.. أي وفاء للعهد هذا؟ أي امرأة عظيمة هي على العموم...
في الغالب، أحفظ نظرات أمّي كما أحفظ وجهي.. لن أتوّه عن وجهي، هي إذاك علاقتي بنظرات أمي.. لن أتوّه عنها. أميز كل نظرة وأستشف من ترددها الشعور الكامن خلفها.. وعامة، نظراتها مصّفاة لهواجسي.. إلاّ حينما تنظر لي من شقّ الباب الموّارب وهي ماضية للمسجد.. أفشل في تمييز النظرات.. خليط بين التوبيخ والحب والشفقة والخوف والرجاء.. مزيج من أحاسيس مختلفة اجتمعت وفرّت هاربة لي في رسائل العين، وما يريحني، أنها تتكلم.. لو صمتت.. البأس أشد..
- ها وذني منك.. نوض تصلي.. أنا بارية منك ولي علي أنا كنديرو.. الله يهديك.... تتفوه بتوبيخها وتمضي.. أعاود الرجوع لحالتي العادية بعد تأنيب قصير .. وأخاف فعلا من أن تتخلى أمي عني بدعواتها.. وحدث أن اجتمعنا حول الغذاء.. زوجة عمّي التي رافقت والدتي للمسجد، وحين همّت الوالدة لجلب المرق لنسّقي حبات الكسكس العصية على البلع جافة، اقتربت مني وهمهمت: - طرطقت لمّك المرّارة بالدعاء.. فينما ركعت كنسمعها تدعي ليك تكول إنت لي كاين.. استرحت.. انشرحت.. سرّت في شراييني دماء لذيذة ومدغدغة.. إعتراف زوجة عمي دليل على أن أمي لا تعني ما تقصده حين توبخني.. دليل على أنها لم تتخلَ عن مسؤوليتها اتجاهي.. دليل على أني لا أزال أُكرم بسبب دعواتها ولم أصل بعد لأن يرسل الله من يقول لي: - تلك التي كنا نكرّمك لأجلها تخلت عنك فاستعد لتدفع الثمن..
0 تعليقات
أكتب لتعليق