بضعة أفكار حول المستقبل
كنت أود أن أقول لمدير منظمة الصحة العالمية، الذي منذ أن أطل على العالم بطلعته البهية والأخبار السيئة تتوالى، عندما سمعته يقول أن فيروس كورونا سيبقى معنا مدة طويلة ما يقوله المغاربة عادة عند سماع التوقعات المتشائمة، أي "فمك لحسو كلب".
سوى أن ما قاله السيد المدير لا دخل للكلاب فيه، لأنه يحمل جانبًا كبيرًا من "الصحة"، أو "قلة الصحة" على الأصح.
فالفيروس جاء لكي يبقى ولن يغير مخططاته المستقبلية، لذلك فالذين يجب عليهم أن يغيروا مخططاتهم المستقبلية وعاداتهم اليومية هم نحن.
أي علينا أن نستعد للتعايش مع هذا الفيروس ومع بقية أفراد عائلته إذا ما "رشقت" له وقرر أن يطور نفسه ويضيف إلى خصائصه الغامضة "خدمات" أخرى تسرع انتقاله وفتكه ببني البشر.
ماذا يعني هذا ؟ يعني أن حكاية "عودة الأمور لطبيعتها" لم تعد ممكنة التحقق طالما أن لقاحًا فعالًا لم يتم التوصل إليه بعد.
لن تعود الأمور أبدا لطبيعتها دون لقاح، والذين لم يفهموا هذه الحتمية سيرتكبون حماقة قاتلة في حق أنفسهم وشعوبهم.
فيروس كورونا بتركيبته الغامضة والرهيبة وضع نقطة النهاية لكل ما هو عادي في حياتنا اليومية، سواء داخل البيت أو في الشارع أو مكان العمل.
من الآن فصاعدًا علينا الاختيار ما بين تغيير نمط عيشنا وإخضاع أنفسنا للتعود على سلوكيات وممارسات مضبوطة يومية ومستمرة أو القبول بالإنقراض التدريجي لسلالتنا.
ليس هناك طريق ثالث. هذا الفيروس لا يترك لنا فرصة الإختيار. لذلك فسيكون علينا بعد رفع الحجر الصحي وحالة الطوارئ أن نتعود على الخروج إلى الفضاء العام حذرين كما لو أننا ذاهبون إلى جبهة حرب حيث العدو الخفي بانتظارنا في كل مكان.
الذين يعتقدون أنه سيكون بمستطاعهم العودة لمصافحة ومعانقة أصدقائهم وأقربائهم والخروج بدون كمامة والعودة إلى إهمال غسل أيديهم كلما خرجوا من دورة المياه والجلوس أينما اتفق سيكون عليهم أن يفهموا أنهم يشبهون من يذهب نحو جبهة الحرب مجردًا من أسلحته الدفاعية، وبالتالي "غادي يجيبوها فروسهم"، لأن الفيروس لا يفعل سوى انتظار وترصد أمثالهم.
سيقول قائل : وهل سنعيش هكذا إلى الأبد ؟
والجواب سهل للغاية وهو : وهل لديك خيار ؟
بالطبع فالحل ليس هو إبقاء الناس جميعًا في البيوت
بعد انتهاء فترة الحجر الصحي. لكن الحل أيضا ليس هو أن يخرج الجميع. وإلا سنخرج على أنفسنا.
هناك فئة من الناس يجب أن تخرج لكي تدفع مع الدولة والآخرين عجلة الاقتصاد الضخمة، بعبارة أدق لكي يأكل الجميع الخبز ويظلوا على قيد الحياة.
وهناك فئة يجب أن تفهم أنها بقدر ما ظلت في البيت فإنها تقدم معروفًا كبيرًا للبلد والإنسانية.
من حسنات حالة الطوارئ الصحية أنها جعلت كثيرا من الشركات والمقاولات وحتى المؤسسات العمومية تكتشف مزايا العمل عن بعد. ولذلك فسيكون من الغباء تبديد هذه المزايا بالعودة بآلاف المستخدمين والموظفين للعمل في المكاتب كما كانوا يفعلون خلال العصر ما قبل كوروني، محركين معهم وسائل النقل الخاصة والعمومية، مع ما يترتب عن ذلك من ازدحام واختلاط.
كل الوظائف التي يمكن لأصحابها أن ينجزوها من بيوتهم يجب أن تستمر على هذا المنوال، وعلى جميع الشركات والمقاولات والإدارات أن تنجز ثورتها الرقمية حالًا، وإلا فإنها ستنقرض، فعصر الأوراق انتهى ولن يكون هناك مكان سوى للمعاملات الرقمية.
هناك من لم يستوعب بعد أننا دخلنا بسبب هذا الفيروس عصر "التباعد الإجتماعي"، أي ما كان المغاربة دائما يسمونه "شبر التيساع"، سوى أن منظمة الصحة العالمية تفرض المحافظة على متر ونصف من التيساع بينك وبين أقرب شخص لك وليس فقط شبرا.
التباعد الإجتماعي هو "العقد الإجتماعي" الجديد الذي سيحكم عالمنا. كل تصرفاتنا وسلوكياتنا ستكون محكومة باحترام هذا التباعد. أي أننا سندخل كأفراد في عزل ذاتي دائم حماية لأنفسنا وللآخرين. وهذا سيتطلب منا الاشتغال على أنفسنا جيدا لأن التعاطي مع هذا العقد الإجتماعي باستخفاف يمكن أن يكلفنا حياتنا وحياة من نحب.
ماذا بشأن قطاعات مهنية واسعة كالمقاهي والمطاعم والفندقة ؟ هل سيأتي عندنا سياح من الخارج وكيف يجب علينا التعامل معهم ؟ وزير الخارجية الألماني قال لمواطنيه أنه من الممكن أن يقضوا الصيف المقبل في المغرب ؟ هل هو قرار حكيم أن نفتح المطارات ونشرع في استقبال السياح ؟
من يحلم برؤية السياح الأجانب في فنادقه بعد شهرين فهو كمن يحلم برؤية النجوم في عز الظهيرة.
ويمكن على أحسن تقدير أن يعوض السياح المغاربة السياح الأجانب إذا ما تم احترام تطبيق شروط الوقاية والتباعد الإجتماعي وقدم القطاع الفندقي عروضًا مغرية لأصحاب الدخل المحدود، أي خصما يصل إلى خمسين بالمائة على حجوزات كل الفنادق المصنفة، هذا طبعًا إذا ما تم القضاء نهائيًا على الفيروس في كامل التراب المغربي.
إن هذا الهدف، القضاء على الفيروس، يجب أن يكون أولوية الأولويات، كل مدينة، كل جهة، كل حي، كل زقاق، يجب أن يفعل المستحيل للتخلص في أقرب وقت من الفيروس، فهذا هو جواز المرور الوحيد الذي سيحصل عليه المواطنون لكي يتحركوا بحرية داخل وبين المدن، وإلا فإن تنقلاتهم وتحركاتهم ستكون بحسب ما يقرره الفيروس وقدرته على نشر عدواه. بمعنى آخر حريتنا اليوم توجد بأيدينا، فإما أن نلتزم بصرامة بقرار الحجر الصحي والتباعد الإجتماعي ووضع الكمامات وإما أننا سنؤجل حريتنا لوقت أطول.
إذا ما توصل المغرب لتحقيق صفر حالة مصاب، وهذا ما نتمناه، فهل هذا يعني أنه سيفتح حدوده مع العالم الخارجي ويسمح بحرية التنقل ؟
سيكون ذلك بنظري المتواضع خطأ جسيما. لأن الفيروس أصلا جاءنا من الخارج، والقضاء عليه داخل المملكة لا يعني عدم عودته من جديد مع أول قادم.
لذلك فحل مشكل الأجانب العالقين داخل المغرب والمغاربة العالقين في الخارج سيكون أقصى ما يمكن أن يقوم به المغرب على مستوى فتح الحدود والنقل الجوي. السياحة سيكون عليها أن تنتظر.
هناك اليوم أولويات حيوية يجب الإنكباب عليها بشكل مستعجل لأن الوقت لا يجري في صالحنا بل في صالح الفيروس.
نعرف أن الأشهر المقبلة ستعرف انحسارا نسبيا للفيروس، لأسباب يجهلها الجميع، لكن التوقعات تقول أن العالم سيشهد عودة مظفرة له مع الخريف المقبل، لأسباب يجهلها الجميع أيضا.
هذا يعني أن العالم سيعيش ستة أشهر خارج البيوت وستة أشهر داخلها. سنصبح مثل الدببة في بياتها الشتوي. وماذا تصنع الدببة لكي تعيش ستة أشهر تحت الثلج دون أن تتجمد الدماء في عروقها وتموت ؟
الذين يتابعون قناة ناشيونال جيوغرافيك يعرفون أن الدببة القطبية تخزن الدهون اللازمة طوال الستة أشهر التي تقضيها خارج جحورها الثلجية، وعندما تبدأ فترة البيات الشتوي تنظم عملية تنفسها حسب وتيرة ضربات القلب وتقلل ما أمكن من حركاتها حرصًا على عدم تبديد الطاقة، وتنتظر أن يبدأ الجليد في الذوبان.
هذا درس مفيد تقدمه الدببة لبني البشر. وهو درس يحض على اقتصاد الإمكانيات والتخزين والإنفاق الدقيق حسب الحاجة، والأهم من ذلك المحافظة على الطاقة.
علينا إذًا منذ الآن الشروع في تخزين المواد الأساسية الإستراتيجية استعدادًا لأشهر الخريف والشتاء المقبلين.
المواد البترولية الآن سعرها بخس والظروف مناسبة لشركات المحروقات لتوفير مخزون كاف. المشكلة هي أن الأغلبية الساحقة من الشركات لا تتوفر على مخازن فكل ما تصنعه هو شراء المواد وتوزيعها على المحطات كأي وسيط، سوى شركة واحدة هي أفريقيا التي لديهما 180 خزانا عبر تراب المملكة، وتستغل مخازن ميناء طنجة المتوسطي لتخزين احتياطي المحروقات.
وقبل أن تقوس حاجبيك دعني أقول لك أنه يمكنك أن تكره هذه الشركة وصاحبها وتطالب بمقاطعتها، كل هذا من حقك، لكن عندما يتعلق الأمر بضمان المخزون الاستراتيجي للبلاد من الغاز السائل وغاز البوطان والمازوت والبنزين فالأرقام، إذا كنت موضوعيًا، تجعلك تؤجل حقدك وغضبك إلى ما بعد.
ثاني شيء مهم يجب تخزينه هو المنتجات الفلاحية، علينا أن نوجه الإهتمام الفلاحي نحو السوق الداخلية والصناعات الغذائية التحويلية للإستفادة من صلاحية المواد الفلاحية والبحرية لوقت أطول.
ويمكن أن نعوض صادراتنا الفلاحية بمنتجات طبية خصوصا نحو البلدان الأفريقية، ولدينا مختبرات أدوية لديها القدرة على تلبية طلب السوق الداخلي والخارجي بشكل عادي، مع إمكانية تخزين احتياطي استراتيجي من كل الأدوية التي يصنعها حوالي 39 مختبرًا مغربيًا تشغل أغلبها يدا عاملة مهمة في وحداتها الصناعية.
ووحدها صناعة الكمامات لو تم توفير الوحدات الصناعية الكافية لإنتاجها وتغطية حاجيات السوق الداخلية لأصبحنا قادرين على تصديرها وجني أرباح كبيرة من ورائها بالعملة الصعبة تفوق أرباح صادراتنا الفلاحية.
ماليًا على البنك المركزي أن يقترح نسبة تحويل جد تفضيلية بالنسبة للعملة التي يحولها أفراد الجالية للمغرب، مع رفع مصالح الجمارك للضرائب على الواردات التي تدخل في إطار المواد الكمالية والفاخرة.
ثم هناك أشياء بسيطة ومهمة يمكن أن يساعد بها المغاربة أنفسهم، وتتعلق أساسًا بعادات مغربية أصيلة افتقدناها بسبب ثقافة الإستهلاك والكسل.
في السابق كانت كل أسطح البيوت المغربية فيها خم للدجاج وللأرانب وغيرها من الطيور والحيوانات الصالحة للأكل، بحيث كانت بقايا قشور الخضراوات وفضلات الطعام والخبز اليابس تعطى لهذه الحيوانات ولا تنتهي في أسطل القمامة بالأطنان كما يحدث اليوم.
كما كانت الأسطح والفناءات مليئة بالمحابق التي تزرع فيها شتى أنواع التوابل والأعشاب، وهناك من كانت لديه حقول كاملة من الطماطم والبطاطس والفلفل فوق سطح بيته.
واليوم هناك بيوت كثيرة لديها أمام أبوابها حدائق لا تجد فيها سوى أعشاب وأشجار لا تضر ولا تنفع، كان الأجدر أن يزرعوا فيها الخضراوات والنباتات المفيدة للأكل.
وهذا ليس مزحة، ففي المدن الكبرى بأمريكا وكندا وأوروبا أصبحت زراعة الحدائق وأسطح البيوت رياضة يومية للمواطنين الباحثين عن تحقيق الإكتفاء الذاتي من خضروات خالية من المبيدات الكيماوية.
إنها أيضا مناسبة جيدة للتصالح مع مطبخنا المغربي الأصيل، حيث المواد تخزن وتحفظ للمستقبل وليس فقط للإستهلاك الآني. مطبخنا في الأصل هو مطبخ مقتصد يضع في احتماله دائما حفظ الغذاء وضمان صلاحيته توقعًا للندرة. الخليع، الزيتون المرقد، السمن الحايل... وغيرها من الوصفات التي يمتاز بها مطبخنا هي تراث غذائي يجب إحياؤه وتلقينه للأجيال التي تجهله.
ثقافة حفظ الغذاء ستساهم في التخفيف من الحاجة للخروج في كل مرة لاقتناء الحاجيات الغذائية، على الأقل فإن القايدة حورية سترتاح من كثرة خيطي بيطي التي تعاني منها بسبب "خفة الرجل" هذه.
رشيد نيني
0 تعليقات
أكتب لتعليق