حتى لا تعود حليمة لعادتها القديمة
الجميع بدأ يشعر بالضيق من حالة الحجر الصحي، لكن
الجميع يعي أن الدولة لم يكن لها من خيار آخر سوى هذا الحل. وقد اتضح اليوم أن اتخاذ الملك قرار الحجر بشكل مبكر جنب البلاد كارثة صحية حقيقية.
اليوم تقول عنا الصحف العالمية أن المغرب مصنف ضمن خمس دول طبقت الحجر الصحي بصرامة، وتكتب أخرى أن نسبة تعافي المصابين عندنا هي واحدة من أعلى النسب في العالم، وأن المغرب سبق حتى منظمة الصحة كما كتبت جريدة إلباييس الإسبانية.
لكن حالة الطوارئ الصحية ليست قدرا دائما، إذ سيأتي يوم سيتم اتخاذ قرار رفعها، فماكنة الإقتصاد يجب أن تدور وهناك أفواه يجب أن تأكل والدولة لا يمكنها أن تستمر في تحمل دعم ملايين الأسر لأكثر من ثلاثة أشهر.
والأرجح أن رفع حالة الطوارئ الصحية سيكون تدريجيا وعلى مراحل وحسب الجهات والمناطق التي نجحت في التحكم في انتشار الفيروس. وعلى العموم فالجميع يترقب ظهور رئيس الحكومة يوم الإثنين 18 من هذا الشهر في البرلمان لكي يشرح خطة الحكومة للخروج من الحجر الصحي.
وخلال الأيام الأخيرة تناقلت سيناريوهات كثيرة عبر واتساب، مقترحات ودراسات وتأملات حررها أساتذة ومراكز بحث، سبحان الله كلها مكتوبة بالفرنسية كأنها موجهة للشعب الفرنسي وليس الشعب المغربي، وجميعها تقترح حلولًا عملية للخروج من حالة الطوارئ بأقل الأضرار الممكنة، منها مقترح تقدم به معهد أماديوس لصاحبه إبراهيم الفاسي الفهري يطالب فيه بتأجيل رفع الحجر إلى ما بعد عيد الفطر لأن الناس سيستغلون العيد لزيارة أهاليهم وأن ذلك سيتسبب في نشر العدوى.
طبعًا الأغلبية الساحقة من هذه المقترحات منقولة أو مستوحات مما قامت به الدول الأوربية التي سبقتنا وشرعت في الرفع التدريجي لحالة الطوارئ الصحية، يعني أنها جميعها تركز على ضرورة
الإستمرار في إجراء التحاليل وعزل الحالات المصابة
والإلتزام بوضع الكمامة واحترام شروط التباعد الاجتماعي وسن إجراءات حمائية داخل أماكن العمل واحترام مسافة الأمان إلى غير ذلك من التعليمات التي تشمل المطاعم والمقاهي وغير ذلك من المرافق.
السؤال الذي يطرحه الأوربيون، خصوصا الفرنسيون والإسبان والإيطاليين هو لماذا لم تطبق الدول الاسكندنافية، خصوصا السويد، الحجر الصحي وتركت المواطنين يتصرفون حسب ما يمليه عليهم حس المسؤولية عندهم. فقد ظلت المرافق جميعها عندهم مفتوحة والناس ترتاد المقاهي والمطاعم ودور السينما والساحات والحدائق والأطفال يذهبون للمدارس، ومع ذلك لم تتفشى العدوى بينهم مثلما حدث في بقية دول أوروبا.
هذا يقودنا إلى حقيقة لا يمكن إنكارها وهي أن الشعوب ليست كلها متشابهة. فهناك شعوب لديها حس عميق بالمسؤولية وأخرى لديها حس أقل وثالثة يكاد ينعدم فيها هذا الحس، وهي الشعوب الكامونية.
السويديون مثلًا لا تراسلهم إدارة الضرائب بل يذهبون بمحض إرادتهم لدفعها وهم سعداء بذلك. ليس هناك في السويد مواطن يأخذ شيئًا ليس من حقه، ولذلك فالموظفون الوحيدون الذين يعانون من البطالة هم حراس المعاقل، والمؤسسة الوحيدة التي أفلست في السويد هي مؤسسة السجون، إذ لم يعودوا يجدون مجرمين يضعونهم فيها فأغلقوها، بينما عندنا نحن وضع بنكيران في آخر قانون مالية قبل أن يتقاعد ميزانية لبناء 15 سجنا جديدا، بمعايير دولية الله يخليكم.
في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وشعوب وسط أوروبا عمومًا هناك ثقافة أخرى، ولولا مؤسسات الرقابة المالية وقوة القضاء لتحولت هذه الشعوب إلى ما نراه في البلاد العربية من فساد، فإيطاليا لولا الشرطة المالية والقضاة لحكمتها المافيا، وفي فرنسا لولا مؤسسات الرقابة المالية والصحافة والقضاء لنهب الفرنسيون صناديق الدولة، أما إسبانيا واليونان وبلجيكا وغيرهما فسجونها مليئة بالسياسيين اللصوص والبنكيين الذين سرقوا أموال الودائع بلا رحمة. باستثناء هولندا التي يستحيل أن تسرق فيها مال الدولة أو تفلت من دفع الضريبة، وألمانيا التي تعتبر استثناء أوربيا فيما يخص الإنضباط والصرامة والجدية وتأليه العمل.
لهذا فتعامل هذه الدول مع الجائحة جاء مختلفا، مثلما جاءت نتائجه مختلفة أيضا. فهناك دول أوربية طبقت الحجر الصحي وأنزلت الجيش للشوارع لفرض احترامه ومع ذلك سجلت أكبر النسب على مستوى العدوى والموتى. فيما هناك دول اختارت الاستمرار في العيش مع الفيروس بشكل عادي معولة على حس المسؤولية لدى مواطنيها الذين لم يكونوا بحاجة لمن يفرض عليهم العمل من منازلهم لأنهم أصلا اعتادوا على ذلك منذ سنوات، ففي الدنمارك أو السويد مثلًا يمكنك أن تنجز جميع احتياجاتك من بيتك انطلاقًا من شاشة هاتفك، فكل شيء مرقمن ومرتبط بالشبكة ولاشيء يجبرك على مغادرة البيت إذا احتجت لأية خدمة كيفما كان نوعها.
بالنسبة لهذه الشعوب المتحضرة والواعية التي تربت على احترام القوانين والواجبات لا تحتاج الدولة للنزول بثقلها للسهر على تطبيق توجيهاتها. وهذا لا يعني أن الدولة غائبة، بل إنها حاضرة لكن حضورها مثل الهواء تتنفسه لكنك لا تراه.
لكن بالنسبة للشعوب الأخرى فحضور الدولة بصرامتها وأحيانًا عنفها ضروري لتطبيق قواعد السلامة والأمان لضمان الأمن الصحي لشعوبها.
وفي المغرب المشكلة ليست في التدابير التي سيستعرضها رئيس الحكومة للخروج من حالة الطوارئ الصحية، فليس أسهل من أن تستعرض لائحة من الإجراءات والتدابير وتذهب وأنت مطمئن إلى أن الجميع سيلتزم بها.
المشكلة هي في من سيراقب حسن تنزيل وتطبيق هذه الإجراءات بشكل يومي ومستمر إلى حين انتهاء هذه الجائحة.
فقد تعودنا في هذا البلد على إصدار قوانين ووضع إجراءات لمحاربة آفات صحية ومشاكل اجتماعية، فتبدأ الحملة بحماس ثم ما تلبث أن تتلاشى وتتراخى وتعود حليمة لعادتها القديمة.
لذلك فشخصيا تخوفي الوحيد هو هذا بالضبط، فأنا أعرف أن جميع مؤسسات الرقابة سوف تتجند لمراقبة حسن تطبيق إجراءات السلامة التي ستفرضها خطة الخروج التدريجي من حالة الطوارئ، لكن فيروس التراخي قد يكون أخطر من فيروس كورونا نفسه.
وهكذا فالعمل الذي ينتظر مؤسسات الوقاية والرقابة والزجر كبير جدا، بل يمكن أن نقول إنه عمل مصيري، لأنهم سيكونون عيون الدولة التي تراقب وتأخذ حرارة المجتمع يوميا تحسبًا لعودة موجة جديدة من الجائحة.
وطبعا فنحن هنا لا نتحدث عن الأجهزة المكلفة بإنفاذ القانون والسهر على احترام تدابير السلامة في الفضاء العام، فهؤلاء قاموا منذ بداية الحجر وإلى اليوم بعمل جبار أربعة وعشرين ساعة على أربعة وعشرين لضمان احترام القانون وحماية الأمن العام.
بل إنني أتحدث عن المؤسسات الموكول لها مراقبة مدى تطبيق معايير السلامة داخل أماكن العمل، سواء كانت شركات أو مقاولات أو مصانع أو إدارات أو مطاعم أو مقاهي وغيرها.
وهنا يحضر دور شرطة البيئة، وشرطة الحضرية، ومفتشو الشغل، ومفتشو صندوق الضمان الإجتماعي، ومراقبو ONSSA ومراقبو النظافة بالجماعات والمجالس البلدية والعمالات إلى غير ذلك من المؤسسات التي ستكون مسؤولية سلامة العاملين والمستخدمين والمواطنين ملقاة على عاتقهم.
في السابق كان يجب عليك إذا شكلت لجنة لمراقبة قطاع معين عليك أن تشكل لجنة أخرى لكي تراقب اللجنة الأولى، ثم لجنة ثالثة لكي تراقب اللجنة الثانية وهكذا إلى ما لا نهاية. هذا كان في زمن ما قبل كورونا، اليوم ليس مقبولًا أن يتهاون أحد في القيام بواجبه أو أن يستغل منصبه للإرتشاء، لأن هذا سيكون بمثابة خيانة للوطن يستحق عليها مقترفها أشد العقوبات، فالأمر يتعلق بمصير شعب ودولة.
وبالنسبة للعقوبات في حق مخالفي إجراءات السلامة التي سينص عليها مخطط الخروج من حالة الطوارئ فيجب أن تكون صارمة بالشكل الذي سيجعل أصحابها عبرة لكل من سيفكر في التلاعب والتراخي في تطبيق شروط السلامة.
الشركات والمقاولات والإدارات والمحلات التجارية التي لا تلتزم بتطبيق التعليمات والشروط التي ستنص عليها خطة رفع الحجر الصحي تنزل على أصحابها غرامات ثقيلة مع إغلاق محلاتهم لفترة تحددها السلطات.
المقاهي التي لا توفر على آلات غسيل الأواني الكهربائية ولا تتوفر على دورات مياه مجهزة بالماء والصابون لا تفتح أصلا إلى أن توفر ذلك.
المواطنون الذين يجتمعون في الشوارع والساحات أو لا يلتزمون بوضع الكمامات يتم توقيفهم وإيداعهم السجن إلى أن يدفعوا غرامة.
لقد سبق أن جلبنا مدونة السير من السويد لكن مع ذلك ظل المغرب في مقدمة الدول المشهورة بحوادث السير.
والجميع يعرف السبب، التهور، التراخي في المراقبة، الفساد والرشوة.
هذا يعني أن وضعنا لخطة لرفع حالة الطوارئ مهما كانت ذكية وفعالة فإنها لن تنجح بدون صرامة وشدة في التنزيل والتتبع والتطبيق، يوميا وإلى أن يرفع الله عنا هذا البلاء.
بمجرد ما بدأت الجائحة اتخذت الدولة قرار التضحية بالإقتصاد من أجل حماية الشعب، الآن حان الوقت لكي يضحي الشعب بالقليل من حريته ورفاهيته من أجل إنقاذ اقتصاد بلده.
رشيد نيني
0 تعليقات
أكتب لتعليق